
" لقد دفعت لها كل ما أملك من مال ، حجزت لها الفنادق الراقية و تذاكر السفر على حسابي "
" رصيد حسابي أصبح صفراً " و هو يشير بـ يده على هيئة الصفر
سألته
" لماذا فعلت كل هذا ؟ هل كنت تريد أن تتزوجها ؟ "
" ليس تماماً "
قالت الألمانية
" الشباب !! ينخدعون بـ كل سهولة من الحسناوات "
" لكن هذا لا يمنعني من فعل الخير و مساعدة الغير ، فقد مررت بأوقات عصيبة في طفولتي "
سألته
" و كيف ذلك "
* Cambodia *
لقد ولدت و ترعرعت في كمبوديا
و عاشت عائلتي بأمن و سلام هناك قبل قدومي إلى الدنيا
قبل انتقالنا للعيش في استراليا
مرغمين و هاربين من الحاكم الشيوعي الطاغية في تلك الحقبة
* النظام الخميري الحاكم *
1975 - 1979
استولى الشيوعي المدعو بـ Pol Pot على الحكم في كمبوديا
على غرار خسارة أمريكا للحرب ضد فيتنام
و أول شيء فعله هو دفع الناس للمغادرة الإجبارية للمدن بحجة أن أمريكا قد تقوم بقصفها
صدقه الناس حين بدا ذو توجه مسالم في بادئ الأمر
و تركوا منازلهم و لم يعلموا ما ينتظرهم من مصير دموي هو الأسوأ في تاريخ آسيا المعاصر
تحركت أنا و عائلتي إلى تلك الأرياف و التي تبينت لاحقاً أنها لم تكن سوى " معسكرات اعتقال "
قلت مصادر الأكل و أجبرنا في العمل في الحقول و المزارع ، أوهمونا أن الإجلاء كان
لتقريب الناس من مصادر الطعام بسبب عدم كفاءة المواصلات لأيصالها لهم
لكن دوافع هذا التحرك الحقيقية هو كره لكل مظاهر التمدن و المحاكاة للحياة الغربية
و من أجل تحويل كمبوديا إلى دولة فلاحين و ليقتلع كل مظاهر الحياة المدنيّة الحديثة منها
و بالتالي يكسر شوكة أي تنظيم جاسوسي للعدو بحكم العدد السكاني القليل في المدن
* مسلسل الإرهاب *
عزلنا تماماً عن العالم الخارجي
و نضب الأكل حتى بان العظم من جلدة أبي
النظام الحاكم الجديد حاصر و أعدم أي شخص له علاقة بالحكومة السابقة
من الشرطة و ضباط الجيش السابقين و أفراد الحكومة
بل تعدى ذلك ليصل إلى أبادة أهليهم و ذويهم
لكيلا تبقى ذرة انتقام في قلب أي شخص يعيش في كمبوديا
الإعدام لم يتوقف عند هؤلاء فحسب
بل شمل كل من هو متعلم و مدرس
و كل من يرفض العمل و كثير الشكوى و المرضى
و كل من ينتحب على فقيده أو يمارس الشعائر الدينية
تنوعت طرق الإعدام
و استخدمت الفأس أحياناً للتوفير من الذخيرة
الجوع و و انتشار المرض كـ الملاريا ساهم في إبادة الكثيرين
ذلك اليوم المشؤوم
حين اقتاد الجنود أبناء عمي خارج المعسكر
و ما هي إلا لحظات حتى سمعنا دوي رصاص من بعيد
إيذاناً برحيلهم عن عالمنا
* الهروب من المعتقل *
في تلك الأثناء
كسب أبي صداقة و ثقة بعض الحراس
عن طريق تهريب السجائر إليهم
- أبي الذي لم أتوقعه أن يعيش إلى يومنا هذا -
عاهده أحدهم أن يعاونه في الهرب من هذا المعتقل
بعد أن يرتب له مع مرشد ليدله إلى شاطىء الأمان
أيقظني أبي ذات ليلة و قال " حان الموعد "
و رأيت أمي و أختاي و جدتي جاهزين جميعاً
و الحارس واقف عند الباب
*******
التففنا حول أبي و أومأ بـ رأسه إلى الحارس
أنّا جاهزون
انطلقنا في تخافت نحذر حتى الدوس على الحشائش
السكون مخيف من حولنا
لا حركة و لا همس و لا حتى ضوء مصباح
لا نسمع سوى صرير الحشرات
وصلنا سياج المعتقل حيث وجدنا المرشد و معه ينتظر
أمل الخلاص من براثين هذه الحياة القاسية
* حقل ألغام *
تقدمنا المرشد و نحن نتبعه في خضم هذا الليل المظلم
خطواته لا نكاد نراها
يقف أمامنا بـ مسافة ثم يلوح لنا لـ نلحق به
" من هنا ... من هنا "
كان علينا أن نسلك مساراً محدداً
لكيلا تطأ أقدامنا أحد الألغام المزروعة يمنة و يسرى
و في الوقت ذاته أن لا نثير انتباه مراقبي الأبراج
تجاوزنا الحقل بـ نجاح
و دخلنا في معمعة الغابات
لكن جدتي البالغة الـ 80 سنة أصابها بعض الإرهاق
فـ تباطأت حركتنا و تأخرنا بـ اللحاق بـ المرشد
حتى توارى عن الأنظار !!
* القرار الصعب *
مشينا على سجيتنا إلى أن وصلنا إلى مفترق طرق
لا نملك أدنى فكرة في أي الطريقين ذهب فيه المرشد
توجب علينا الاختيار بـ أسرع وقت
فـ إما أن نخطأ و نهلك أنفسنا
و إما أن نصيب و نلحق بـ ركب الحرية
الصمت يخيم علينا
و جميعنا نحدق في الممرين
حتى أشرت بيدي
" لـ نذهب من هذا الطريق "
عمري كان حينها 4 سنوات
كانت فرصة النجاة في تلك اللحظة 50%
و لحسن الحظ وفقت في اختياري
حيث كان هناك المرشد و تابعنا معه مشوارنا
بـ اتجاه البحر
* لسنا الوحيدين *
اتبعنا المرشد نحو احدى مراكب الصيد
و سلمنا إلى البحار و صعدنا على متن المركب
لـ نجد قرابة الـ 40 شخص محشورين في البهو
نزلنا معهم و رأيت في أعينهم
النظرات التي اختلطت بـ أمل مرغوب مع خوف من المجهول
تحرك بنا القارب بهدوء
و من بعيد ، هناك قوارب خفر السواحل الكمبودية
تجوازها البحار دون أي تدخل منهم
* عاصفة *
مع دفات المحرك و أزيز خشب المركب
نمخر عباب هذا البحر متجهين إلى الأراضي التايلاندية
تساقطت زخات مطر و صاح البحار
" نحن مقبلون على عاصفة "
تماسكت الأيادي و احتضنت أمّ صغيرها
زاد ارتفاع الموج و بدأ يرتطم على جدران المركب
برق و رعد مزمجر و بحر هائج
و المركب يتهادى و يتمايل مع كل طود من الأمواج
و هذا يتقيء على ذاك
هدأت العاصفة و مرت تلك الليلة المرعبة بـ سلام
* اقتربنا و لكن *
واصلنا الإبحار و المضي قدماً نحو Thailand
و هناك في الأفق البعيد قارب يتجه نحونا بسرعة
و من أول وهلة ظننا أنهم خفر السواحل التايلاندية
و لكن ...
لم يكونوا هم !!
إنهم ... إنهم
قراصنة بحار !
اعترضوا مركبنا و أوقفوا قاربهم بـ جانبه
اعتلى قائدهم المركب و جعل البحار يجثو على ركبتيه امامه
مصوباً مسدسه على رأسه
" أر جوك ... دعهم و شأنهم "
" أتوسل إليك ... اتركهم في سبيل حالهم "
نحن نتابع ما يجري بـ قلق و أبي يشد على يدي
" إنهم مجرد مساكين "
تمعن فينا القرصان لـ برهة
ثم أمر بـ إعطائه كل ما نملك من حلي و مجوهرات و أموال
لبينا له مراده و رحلوا عنا دون أن يصيبونا بـ أذى
* أجمل صباح *
استيقظت صباح اليوم الرابع
و نادى علي البحار
" Hey kid ! Do you want to see the land "
" يا فتى ! هل تريد أن ترى اليابسة "
و بسرعة تسلقت إلى حيث يقود المركب
و يا الله ! ما ألطف هبات هذا النسيم
و ما أروع الشمس و أشعتها المنعكسة على الشواطيء المزدانة بـ الأشجار
" تلك هي تايلاند "
و ستظل ذكرى ذاك الصباح خالدة في ذهني ما حييت
*******
نقلنا بعدها إلى مخيم اللاجئين التابع إلى الأمم المتحدة
و عرضت علينا دول مثل Canada و France و Australia اللجوء إليها
فـ اختار أبي استراليا
و أعطينا مبلغ و قدره 12 $
و عند وصولنا إلى Sydney
توجه بي أبي إلى سوبرماركت
و رآني أحدق في لعبة
" هيا خذها "
اشتريناها بكل ذاك المبلغ 12 $
و لازلت احتفظ بها حتى هذا اليوم
كنا نملك صفر من الأموال
أما الآن فـ كلا أختاي مليونيرة و تملكان أكثر من منزل
تدرجنا في كسب الرزق من المقاهي الصغيرة و وصلنا إلى ما نحن عليه الآن
و أنا حالياً أعمل موظف في مؤسسة مالية
جدتي قالت لي مرة
" كن دائم الشكر لله "
و هذا هو مبدأي في الحياة
,
,
انتهى ...
*******
تهون على المرء مصائبه إذا علم بـ مصائب الغير
الأمل في الحياة هو الإيمان بـ الله
و عندما تيأس و تفقد الأمل فـ أنك تفقد الثقة بـ الله
" إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " ( يوسف : 87 )
** القصة حقيقية **
** تايلاند معناها أرض الحرية **